-A +A
حسن النعمي
يذكر أحد كبار السن في قريتنا أنه بلغ من العمر 20 عاما قبل أن يبدأ بالقراءة والكتابة، وأنه اضطر لتعلمها عندما وجد وظيفة كاتب في مكة وهو لا يكتب. نصحه من كان معه أن يلتحق بمحو الأمية. بعد ثلاث سنوات من التعليم أتقن القراءة والكتابة، بل أصبح رمزا من رموز القرية الذين يشار إليهم بالبنان. هذا الرجل المسن لم يكن فريدا في ذلك، بل كذلك غيره ممن التحق بالتعليم حينذاك على بساطته، وقلة إمكاناته، استطاعوا أن يتعلموا ما يحتاجون إليه فقط. كانت سياسة التعليم واضحة، تخريج جيل يقرأ و يكتب بجودة عالية.
فما هي سياسة التعليم الحالية؟
هل نريد جودة في القراءة والكتابة؟ أم نريد متخصصين في العلوم الشرعية، أم نريد متخصصين في العلوم الطبيعية؟! أخشى أننا نريدها كلها دون أن نجيدها كلها. قد يعتقد البعض أن مسألة أن تقرأ وتكتب جيدا أنها مسألة تحصيل حاصل. مفهوم القراءة والكتابة ليس فك الحرف، وليس التهجئة، بل وعي بما نقرأ، وحُسن التعبير عما يدور في أذهاننا. كثير من طلابنا من خريجي الجامعات لا يعون ما يقرأون، ولا يحسنون التعبير عن أنفسهم. والحقيقة أن ضعف طلاب الجامعة امتداد لضعفهم في التعليم العام. وهذا الضعف يكمن في خلل سياسة التعليم، وماذا نريد من الطالب؟ هل نريد طالب (كوكتيل) لا هوية له. أم نريده ناجحا متفوقا في تخصص محدد كعلوم الشريعة، أو علوم العربية، أو علوم الطبيعة، أو علوم الاجتماعيات، أو اللغة الإنجليزية؟! تعددت العلوم والطالب واحد. كل فن من هذه العلوم له مداخله، وفلسفاته، ومقوماته، وكل طالب له ميوله واحتياجاته وطموحه. ومن قال إنه لا بد أن يأخذ الطالب من كل علم بطرف في زمن ثورة المعلومات وسهولة الوصول إليها، فعليه أن يراجع منظوره للتعليم؟!!
تعليمنا الحالي حوّل الطالب إلى بالون مملوء بالمعلومات التي تتبخر بمجرد فتح البالون. أي تعليم هذا الذي يصبح فيه الحافظ من العشرة الأوائل، ومن ليس لديه قدرات في الحفظ يصبح طريد الجامعات وربما أكثر من ذلك؟! لماذا ما يزال تعليمنا يستميت في استظهار المعلومات من الطلاب دون مراعاة للفروق والمهارات الفردية التي هي أولى بالتركيز عليها طوال العام وليس في فترة اختبارات لها ما لها وعليها ما عليها؟!
من التجارب التي لا أنساها. دعيت مرة لإحدى مدارس التعليم العام في أمريكا للقاء طلاب السنة الثامنة، وهي تعادل الثانية متوسط في تعليمنا. كان الهدف من اللقاء أن أتحدث عن الثقافة الاجتماعية في بلادنا من حيث العادات والتقاليد. والطلاب هم من يسألون ويناقشون وأستاذهم يراقب. بعد أن انتهى اللقاء سألت الأستاذ عن هذه التجربة، فقال: أقيم الطلاب على مهارة الأسئلة، وأقيمهم على مهارة استنباط الأسئلة من إجابات الضيف، وهذا الموضوع يندرج تحت مادة الاجتماعيات. يقول: أقسم الفصل إلى مجموعات كل مجموعة تكتب تقريرا عن ثقافة مختلفة، مكتبة المدرسة توفر لهم المعلومات اللازمة حتى لو اقتضى الأمر التواصل مع سفارة البلد المطلوب، ومن واجبات كل مجموعة الالتقاء بضيف، وبعد ذلك كتابة التقرير النهائي للمادة. فسألت وماذا عن الاختبار النهائي لأنني جئت من خلفية أهم ما فيها هذا الاختبار. قال هذا الأستاذ: لا معنى للاختبار بهذا الشكل، فكل ما فعله الطالب طوال العام قد أبان عن مستواه. إضافة لذلك يتبادل الطلاب تقاريرهم، لأن كل مجموعة تركز على ثقافة مختلفة لا تتكرر لدى مجموعة أخرى. فلا نثقل على الطلاب بمعرفة كل الثقافات، فالأمر اختياري يقرره الطالب بنفسه.
هذه تجربة من التجارب التي لا أشك أن التربويين في الوزارة على علم بالكثير منها، لكن أين الخلل؟ هل هو في عدم القدرة على فهم واقعنا، فجاء التعليم منفصلا عن الواقع، أم هل المشكلة في المنهج (الكوكتيل) الذي يؤمن بالأخذ من كل شيء بطرف؟ هذه السياسة التعليمية أعتقد أنها لم تعد مناسبة في زمن الثورة المعلوماتية.
سأقترح ما أراها بداية للحل مع توفر شروط أخرى، وتوفر قدر عال من اتخاذ القرارات الملائمة. أقترح أن نعتمد على التعليم العام المتخصص وفقا لاحتياجات الطلاب لا وفقا لما يريده التربويون ورجالات التعليم. والمقصود أن نطور مناهجنا حسب الفروق الفردية للطلاب. فمنذ المرحلة المتوسطة يكون هناك تخصصات في العلوم الشرعية وعلوم العربية، والعلوم الطبيعية، واللغات، والاجتماعيات. ويوجه الطلاب إليها حسب ميولهم وقدراتهم، هذا التعليم نوعي ويلبي حاجة الفروق الفردية، فالبعض بارع في علوم الطبيعة، لكنه عكس ذلك في اللغات. انقذوا التعليم من سياسة الحشو والحفظ، والتفتوا بشجاعة لبناء تخصصات مبكرة تحدد مسار الطالب وفقا لميوله وقدراته. الطالب لم يعد بحاجة للمعلومة الباردة. المعلومة يوفرها الآن قوقل بلمسة زر، لكن مهمة التعليم الجيد أن يبني التصور الفاعل حول المعلومة سواء الثابتة أو المتجددة.

halnemi@gmail.com


للتواصل أرسل sms إلى 88548 الاتصالات ,636250 موبايلي, 738303 زين تبدأ بالرمز 109 مسافة ثم الرسالة